الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الألوسي: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ}.{أَوْ تَقُولُواْ} في ذلك اليوم {أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا} أي إن آباءنا هم اخترعوا الإشراك وهم سنوه من قبل زماننا {وَكُنَّا} نحن {ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ} لا نهتدي إلى سبيل التوحيد {أَفَتُهْلِكُنَا} أي أتؤاخذنا فتهلكنا اليوم بالعذاب {بِمَا فَعَلَ المبطلون} من آبائنا المضلين لا نراك تفعل.و{أَوْ} لمنع الخلو دون الجمع، وفعل القول عطف على نظيره.وقرأهما أبو عمرو بالياء على الغيبة لأن صدر الكلام عليها، ووجه قراءة الخطاب ما علمت.وقال البعض: إن ذاك لقول الرب تعالى ربكم وإنما وإنما لم يسع القوم هذا القول ون ما ذكر من استعدادهم يضيق عليهم المسالك إليه إذ التقليد عند قيام الدلائل والقدرة على الاستدلال بها مما لا مساغ إليه أصلًا.هذا والذي عليه المحدثون والصوفية قاطبة أن الله تعالى أخذ من العباد بأسرهم ميثاقًا قاليًا قبل أن يظهروا بهذه البنية المخصوصة وأن الإخراج من الظهور كان قبل أيضًا.فقد أخرج أحمد. والنسائي. وابن جرير. وابن مردويه. والحاكم وصححه. والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة فاخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنشرها بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلًا ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا».أخرج مالك في الموطى. وأحمد. وعبد بن حميد. والبخاري في التاريخ. وأبو داود. والترمذي وحسنه. والنسائي. وابن جرير وخلق كثير عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} [الأعراف: 172] إلخ فقال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال الرجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال: إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله تعالى النار» والبيضاوي حمل الآية في تفسيره على التمثيل وكذا في شرحه للمصابيح وذكر فيه أن ظاهر حديث عمر رضي الله تعالى عنه لا يساعد ذلك ولا ظاهر الآية لأنه سبحانه وتعالى لو أراد أن يذكر أنه استخرج الذرية من صلب آدم دفعة واحدة لا على توليد بعضهم من بعض على مر الزمان لقال: وإذ أخذ ربك من ظهر آدم ذريته، والتوفيق بينهما أن يقال: المراد من بني آدم في الآية وأولاده وكأنه صار اسمًا للنوع كالإنسان والبشر، والمراد بالإخراج توليد بعضهم من بعض على مر الزمان واقتصر في الحديث على ذكر آدم اكتفاء بذكر الأصل عن ذكر الفرع، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: «مسح ظهر آدم» يحتمل أن يكون الماسح الملك الموكل على تصوير الأجنة وتخليقها وجمع موادها وأسند إلى الله تعالى لأنه الآمر كما أسند التوفي إليه قوله تعالى: {يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] والمتوفي لها هو الملك لقوله تعالى: {تتوفاهم الملائكة} [النحل: 28] ويحتمل أن يكون الماسح هو الله تعالى ويكون المسح من باب التمثيل، وقيل: هو من المساحة بمعنى التقدير كأنه قال: قدر ما ف ظهره من الذرية انتهى كلامه.وقال بعضهم: ليس المعنى في الحديث أنه تعالى أخرج الكل من ظهر آدم عليه السلام بالذات بل أخرج من ظهره أبناءه الصلبية ومن ظهورهم أبناءهم الصلبية وهكذا إلى آخر السلسلة لكن لما كان المظهر الأصلي ظهره عليه الصلاة والسلام وكان مساق الحديث بيان حال الفريقين إجمالًا من غير أن يتعلق بذكر الوسائط غرض علمي نسب إخراج الكل إليه، وأما الآية الكريمة فحيث كانت مسوقة للاحتجاج على الكفرة المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان عدم إفادة الاعتذار بإسناد الإشراك إلى آبائهم اقتضى الحال نسبة إخراج كل واحد منهم إلى ظهر أبيه من غير تعرض لإخراج الأبناء الصلبية لآدم عليه السلام من ظهره قطعًا، وعدم بيان الميثاق في الخبر العمري ليس بيانًا لعدمه ولا مستلزمًا له اهـ.وقال الألوسي:وأنت تعلم أن التأويل الذي ذكره البيضاوي يأبى عنه كل الآباء حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأن ما ذكره البعض من أن مساق الحديث بيان حال الفريقين إجمالًا يأباه ظهور عدم كون السؤال عن حالهما ليساق الحديث لبيانه فإن الظاهر أن الصحابي إنما سأله عليه الصلاة والسلام عما أشكل عليه من معنى الآية أن الاشهاد هل هو حقيقة أم على الاستعارة؟ فلما أجابه صلى الله عليه وسلم بما عرف منه ما أراده سكت لأنه كان بليغًا ولو أشكل عليه من جهة أخرى لكان الواجب بيان تلك الجهة وكذا فهم الفاروق رضي الله تعالى عنه.ومن هنا يعلم أن قول الإمام أن ظاهر الآية يدل على إخراج الذرية من ظهر بني آدم، وليس فيها ما يدل على أنهم أخرجوا من صلب آدم ولا ما يدل على نفيه إلا أن الخبر دل عليه فيثبت خروجهم من آدم بالحديث ومن بنيه بالآية لا يطابق سياق الحديث كما لا يخفى، وقال الشيخ شهاب الدين التوربشتي: إنما جد كثير من أهل العلم في الهرب عن القول في معنى الآية بما يقتضيه ظاهر خبر الحبر لمكان قول سبحانه: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين} [الأعراف: 172] فقالوا: إن كان هذا الإقرار عن اضطرار حيث كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين اليقين فلهم ذلك اليوم أن يقولوا: شهدنا يومئذ فلما زال عنا علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا كان منا من أصاب ومنا من أخطأ وإن كان عن استدلال ولكنهم عصموا عنده من الخطأ فلهم أيضًا أن يقولوا: أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمه وحرمناهما من بعد ولو امددنا بهما أبدًا لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم الأول فيتعين حينئذ أن يراد بالميثاق ما ركب الله تعالى فيهم من العقول وآتاهم من البصائر لأنها هي الحجة البالغة والمانعة عن قولهم: {إنا كنا} [الأعراف: 172] إلخ لأن الله تعالى جعل الإقرار والتمكن من معرفة ربوبيته ووحدانيته سبحانه حجة عليهم في الإشراك كما جعل بعث الرسول حجة عليهم في الايمان بما أخبر عنه من الغيوب.انتهى.وقال الألوسي:وحاصله أنه لو لم تؤول الآية بما ذكر يلزم أن لا يكون محجوجين يوم القيامة، وقد أجيب عنه باختبار كل من الشقين ورفع محذوره.أما الأول: فبأن يقال: إذا قالوا شهدنا يومئذ فلما زال علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا كان كذا أيها الكذابون متى وكلتم إلى إرائكم ألم نرسل رسلنا تترى ليوقظكم عن سنة الغفلة؟ وأما الثاني: فبأن يقال: إن هذا مشترك الالزام فإنه إذا قيل لهم: ألم نمنحكم العقول والبصائر: فلهم أن يقولوا؟ فإذا حرمنا اللطف والتوفيق فأي منفعة لنا في العقل والبصيرة؟ وذكر محيى السنة في جواب أنه كيف تلزم الحجة ولا أحد يذكر ذلك الميثاق أن الله تعالى قد أوضح الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا به فمن أنكره كان معاندًا ناقضًا للعهد ولزمته الحجة ونسيانه وعدم حفظه لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق، ولا يخفى ما فيخ، ولهذا أجاب بعضهم بأن قوله تعالى: {أَن تَقُولُواْ} [الأعراف: 172] إلخ ليس مفعولًا له لقوله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ} [الأعراف: 172] وما يتفرع عليه من قولهم: {بلى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] حتى يجب كون ذلك الإشهاد والشهادة محفوظًا لهم في إلزامهم بل لفعل مضمر ينسحب عليه الكلام، والمعنى فعلنا ما فعلنا من الأمر بذكر الميثاق وبيانه كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرة يوم القيامة إنا كنا غافلين عن ذلك الميثاق لم ننبه عليه في دار التكليف وإلا لعملنا بموجبه، هذا على قراءة الجمهور، أما على القراءة الأخرى فهو مفعول له لنفس الأمر المضمر العامل في {إِذْ أَخَذَ} [الأعراف: 172] والمعنى اذكر لهم الميثاق المأخوذ منهم فيما مضى لئلا يعتذروا يوم القيامة بالغفلة عنه أو بتقليد الآباء، ثم قال: هذا على تقدير كون {شهدنا} [الأعراف: 172] من كلام الذرية وهو الظاهر فإما على تقدير كونه من كلام الله تعالى فهو العامل في {أَن تَقُولُواْ} [الأعراف: 172] ولا محذور أصلًا والمعنى شهدنا قولكم هذا لئلا تقولوا يوم القيامة إلخ لأنا نردكم ونكذبكم حينئذ انتهى.ولا يخفى أن ما ذكره أولًا من تعلق {إن} وما بعدها بفعل مضمر ينسحب عليه الكلام أو بنفس الفعل المضمر العامل في {إِذْ} وضاح في دفع السؤال الذي أشرنا إليه، وإنه لعمري في غاية الحسن إلا أن الظاهر تعلقه بالاشهاد وما يتفرع عليه، وأرى الجواب مع عدم العدول عنه لا يخلو عن العدول عنه، ويؤيد ماذكره ثانيًا من كون {شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] من كلام الله تعالى وكونه العامل ما أخرجه ابن عبد البر في التمهيد من طريق السدي عن أبي مالك.وعن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من الصحابة أنهم قالوا في الآية: لما أخرج الله تعالى آدم من الجنة قبل تهبيطه من السماء مسح صفح ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتى ومصح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال: ادخلوا النار ولا أبالي فذلك قوله تعالى: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال: {ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف: 172] فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال: هو والملائكة {شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة} [الأعراف: 172] الحديث، وفيه مخالفة لما روى عن الحبر أولًا من أن الأخذ كان بنعمان إذ هو ظاهر في كون ذلك بعد الهبوط وهذا ظاهر في كونه كان قبل، وفي بعض الأخبار مايقتضي أنه كان إذ كان عرضه سبحانه على الماء، فقد أخرج عبد بن حميد.والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله تعالى الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين فقال: يا أصحاب اليمين فاستجابوا له فقالوا له: لبيك ربنا وسعديك قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. قال: يا أصحاب الشمال فاستجابوا له فقالوا له لبيك ربنا وسعديك قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى» فخلط بعضهم ببعض الخبر، وذكر بعضهم أنه كان بالهند حيث هبط آدم عليه السلام، وآخرون أنه كان في موضع الكعبة وأن الذرية المخرجة من ظهر آدم عليه السلام كالذر أحاطت به، وجعل المحل الذي شغلته إذ ذاك حرمًا، وليس لهذا سند يعول عليه، والتوفيق بين هذه الروايات مشكل إلا أن يقال بتعدد أخذ الميثاق، وإليه ذهب السادة السوفية قدس الله تعالى أسرارهم، لكن يشعر كلامهم باختلاف النوع، فقد قال بعضهم: رأيت من يستحضر قبل ميثاق {أَلَسْتَ} [الأعراف: 172] ستة مواطن أخرى ميثاقية فذكرت ذلك لشيخنا رضي الله تعالى عنه فقال: إن قصد القائل بالحضرات الستة التي عرفها قبل ميثاق {أَلَسْتَ} الكليات فمسلم، وأما إن أراد جملة الحضرات الميثاقية التي قبل {أَلَسْتَ} فهي أكثر من ذلك، ويعلم من هذا ما في قولهم: لا أحد يذكر ذلك الميثاق على وجه السلب الكلي من المنع، وقد روى عن ذي النون أيضًا وقد سئل عن ذلك هل تذكره أنه قال: كأنه الآن في أذني.وقال بعضهم مستقربًا له: إن هذا الميثاق بالأمس كان وأشار فيه أيضًا إلى مواثيق أخر كانت قبل، ويمكن أن يقال مرادهم من تلك السالبة لا أحد من المشركين يذكر ذلك الميثاق لا لا أحد مطلقًا.
|